الحروب والفقر- حلقة مفرغة سببها غياب الرشد السياسي
المؤلف: بشرى فيصل السباعي09.10.2025

ما القاسم المشترك الذي يجمع بين الهند وباكستان، هذين البلدين اللذين أثارا قلق العالم أجمع بسبب مواجهاتهما العسكرية التي تنذر بخطر حقيقي لامتلاكهما أسلحة نووية؟ والأمر يثير الاستغراب بشكل أكبر لعدم وجود مبرر منطقي لهذه الصدامات المتكررة أو هذا العداء المستحكم، فالهند التي بادرت بشن هجمات على باكستان لم تتمكن من إلقاء القبض على المتورطين في حادثة قتل مجموعة من السياح في إقليم كشمير المتنازع عليه، وبالتالي لم يثبت بأي شكل من الأشكال تورط باكستان في هذا الاعتداء الذي اتخذته الهند ذريعة لعدوانها. الأمر المشترك بين هذين البلدين هو أنهما من بين أفقر وأكثر دول العالم تعاسة وشقاء، ويبدو أن هذه الصفة تكاد تكون ملازمة للدول المتورطة في نزاعات أهلية أو حروب إقليمية، فهي في الغالب دول تعاني من الفقر المدقع والخصاصة، وبعض الدول الأفريقية التي خاضت حروباً ضروساً ضد بعضها البعض كانت تعاني من وطأة المجاعة، في حين أن قيمة الذخائر المستخدمة في تلك الحروب لو تم استثمارها بشكل صحيح لأمكنها إنقاذ حياة الكثيرين ممن يصارعون الموت جوعاً. وحالياً، ووفقاً لتقارير الأمم المتحدة، يواجه السودان أزمة مجاعة غير مسبوقة، وهو في الوقت نفسه غارق في حرب أهلية طاحنة كانت السبب الرئيسي في تفاقم هذه الكارثة الإنسانية، ومن نافلة القول أن السلطات السياسية والعسكرية في مثل هذه الحالات لا تكترث بمعاناة شعوبها، وكل ما يشغل بالها هو تحقيق النصر في الحرب بأي ثمن، مدفوعة بغرائز الكبرياء والغطرسة والعناد والأنانية المفرطة.
بينما نجد أن السمة الغالبة على الدول الغنية والمتقدمة صناعياً هي أنها تنعم بالسلام والاستقرار، وتجنب الانخراط في صراعات ونزاعات مسلحة، وحتى في القارة الأوروبية، فإن الدول التي انزلقت مؤخراً إلى مواجهات عسكرية هي في الأصل دول أوروبية فقيرة. فماذا يعني هذا؟ لماذا تتورط الدول الفقيرة في الحروب بكثافة، بينما تتمتع الدول الغنية بالسلام والرخاء؟ الجواب يكمن في أن الأسباب التي أدت إلى فقر هذه الدول هي نفسها التي تدفعها إلى التورط في الحروب، وهذا السبب الجوهري هو الافتقار إلى النضج السياسي والوعي الحصيف. صحيح أن بعض هذه الدول الفقيرة تمتلك ثروات طبيعية هائلة من النفط والمعادن، ولكن ما الذي يمنح قادة الدول الصناعية ذلك النموذج الراقي من الرشد السياسي، بينما تفتقر إليه القيادات في الدول الفقيرة؟ الإجابة تكمن في الثقافة العامة السائدة في المجتمع، وكل ما يدعم هذه الثقافة من مؤسسات وأنظمة وقوانين فاعلة. والثقافة العامة السائدة هي مسؤولية الشعوب بالدرجة الأولى، فالشعوب هي التي تصنعها وتنتج القادة الذين يمثلون هذه الثقافة ويعبرون عنها. ولذلك، في البلدان التي شهدت إسقاط أنظمتها الحاكمة من خلال الحروب أو الثورات أو الانقلابات، لم يطرأ أي تغيير جوهري على نمط القيادة، والسبب في ذلك هو عدم تغيير الثقافة العامة السائدة، مما أدى إلى إعادة إنتاج نفس النموذج القديم، وغالباً ما يكون أسوأ من النظام الذي تم الإطاحة به، لأنه يحمل في طياته نزعة انتقامية ضد كل من لم يدعموه.
إن صناعة الثقافة العامة السائدة في المجتمعات تقع على عاتق النخب الفكرية والعلمية والإعلامية والصحفية، بالإضافة إلى التكنوقراط والمتخصصين والخبراء، وكل من يمتلك سلطة مادية أو معنوية من أي نوع. والشعب، من خلال تفاعله الإيجابي مع النموذج الرشيد، يضمن انتشار وسيادة هذا النموذج السياسي ومن يمثله. ولكن، للأسف الشديد، يتم التلاعب بالشعوب بسهولة شديدة، تماماً كما يتم التلاعب بوعي الأطفال، وذلك من خلال الخطاب الديماغوجي الشعبوي، وهو الخطاب الذي يثير النعرات الطائفية والعرقية، ويستغل آمال الجماهير وإحباطاتها ومخاوفها، ويعزز من كبرياء الأنا الجماعية والشوفينية والعنصرية، تحت ستار تحقيق المدينة الفاضلة الموعودة واستعادة العظمة الماضية المفقودة. إن أصحاب الخطاب الديماغوجي هم أسوأ أنواع الزعماء على الإطلاق، وهم يتسببون في الكوارث والويلات لأوطانهم وشعوبهم، تحت شعار تحقيق العظمة والرخاء، وغالباً ما يتم ذلك من خلال تضخيم الجانب العسكري والأمني على حساب المصالح الحقيقية للشعب وتطوير الخدمات الأساسية. يلقى الخطاب الديماغوجي رواجاً وقبولاً واسعاً عندما يعاني الشعب من الإحباط واليأس وفقدان الثقة في قدرة القادة المعتدلين على حل المشاكل المزمنة التي تعصف بالبلاد، فيصبح الشعب كالغريق الذي يتمسك بأي قشة تلوح في الأفق وتقدم له وعوداً براقة وغير واقعية بتحقيق المعجزات بمجرد وصول الزعيم الديماغوجي إلى السلطة. بينما تنفر الشعوب من الخطاب الديماغوجي عندما تكون في حالة ازدهار ورخاء عام، لأنه يبدو كتهديد لهذا الوضع الإيجابي. وفي الآونة الأخيرة، تمكنت زعامات ديماغوجية من الوصول إلى السلطة في أنحاء مختلفة من العالم، وذلك بسبب الإحباط المتزايد لدى الشعوب من القيادات التقليدية التي تمثل الاعتدال. فالديماغوجي هو شخص انتهازي يستغل فرصة إحباط الشعب ليغريه بدعم ما فيه ضرره ومصلحته الشخصية.